مقاربة تعدّد مصادر المعرفة

تقول هذه المقارنة إنه يمكن الوصول إلى المعرفة -خصوصاً الدينية منها- عبر طرق غير التعلّم التقليدي -وبالتالي غير المعلومات- عبر التقوى وتهذيب النفس والإخلاص ومعرفة النفس والزهد. سيعرض هذا القسم لأبرز الآيات والأحاديث التي يُستدلّ بها عادة على هذه الحقيقة، ولكن التفصيل في ذلك وبحث أبرز نقاط الجدال فيه يخرج عن نطاق الدراسة.

التقوى: يذكر الفيض الكاشاني العديد من الآيات والأحاديث التي تذكر عن حقيقة حصول علم (نوراني) عن طريق التقوى: "إنما يحصل هذا العلم من اللّه سبحانه لمن تبتل إليه تبتيلاً، واتخذ بالذّكر والفكر إليه سبيلاً، على قدر صفائه وقبوله وقوته واستعداده، فلا يحصل إلا بعد فراغ القلب وصفاء الباطن وتخليته عن الرذائل وتحليته بالفضائل ولا سيّما الزهد في الدّنيا ومتابعة الشرع وملازمة التقوى. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ1، ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً2، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ3، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾4، ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا5، وفي الحديث النبوي (ص) “لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّمِ إِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَه‏”.

ونجد هذه الحقيقة في ديانات أخرى كالمسيحية. على سبيل المثال، ينقل Kevin Miller في كتابه "النجاة من تضخّم المعلومات" نقلاً عن الراهب François Fénelon: “ستجد بعض المساعدة في الكتب التي تقرأ؛ فما قرأته هو صحيح وسيساعدك على بناء أرضية جيدة لإيمانك. لكن لا تضع ثقة زائدة بالكتب، وتعلم أن تضعهم جانباً كما يأمرك الله… الله سيعلّمك أكثر من استطاعة أيّ كتاب أو شخص؛ هل أنك بحاجة للذهاب إلى المدرسة لتتعلّم كيف تحب الله أو ترفض ذاتك؟” 6

الإخلاص: تشير العديد من الأحاديث إلى أن الإخلاص من مصادر المعرفة، فمثلاً عن النبي محمد (ص): “مَنْ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ”.7 وتعليقاً على هذا الحديث يقول روح الله الخميني: "إذا كنت مخلصاً فلماذا لا تجري ينابيع الحكمة من قلبك على لسانك مع أنك تعمل أربعين سنة قربة إلى الله حسب تصوّرك؟… إذاً، فاعلم أنّ أعمالنا غير خالصة لله، ولكننا لا ندري، وها هنا الداء الذي لا دواء له."8

وصفات طالب العلم المخلص تناقض صفات طالب العلم غير المخلص. يقول النَّبِيُّ (ص): “مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ بَاباً إِلَّا ازْدَادَ فِي نَفْسِهِ ذُلًّا وَلِلنَّاسِ تَوَاضُعاً وَلِلَّهِ خَوْفاً وَفِي الدِّينِ اجْتِهَاداً فَذَلِكَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ فَيَتَعَلَّمُهُ وَمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَ النَّاسِ وَالْخُطْوَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ بَاباً إِلَّا ازْدَادَ فِي نَفْسِهِ عَظَمَةً وَعَلَى النَّاسِ اسْتِطَالَةً وَبِاللَّهِ اغْتِرَاراً وَفِي الدِّينِ جَفَاءً فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ فَلْيَكُفَّ وَلْيُمْسِكْ عَنِ الْحُجَّةِ عَلَى نَفْسِهِ وَالنَّدَامَةِ وَالْخِزْيِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.9

ومن نتائج الإخلاص أن لا يكون تعلّمنا بهدف أن نظهر علماء أمام الناس، فلا نتعلم بالضرورة المعارف التي يتوقع الناس منّا تعلمها، ولا نخشى من قول “لا أعلم”.

الزهد: تشير بعض الأحاديث إلى دور الزهد في تحصيل الحكمة عن الزاهد، نذكر منها:

  1. عن النبي محمد (ص): “مَا زَهِدَ عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنْبَتَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَه‏”.10

  2. وعنه (ص) في وصيته لأبي ذر: “يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا رَأَيْتَ أَخَاكَ قَدْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا فَاسْتَمِعْ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُلْقِي إِلَيْكَ الْحِكْمَة”.11

  3. وعن الإمام علي (ع): “مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَجْزَعْ مِنْ ذُلِّهَا وَلَمْ يُنَافِسْ فِي عِزِّهَا هَدَاهُ اللَّهُ بِغَيْرِ هِدَايَةٍ مِنْ مَخْلُوقٍ وَعَلَّمَهُ بِغَيْرِ تَعْلِيمٍ وَأَثْبَتَ الحِكْمَةَ فِي صَدْرِهِ وَأَجْرَاهَا عَلَى لِسَانِهِ.”.12

ومن علامات إحدى مراتب الزهد المتقدّمة “ترك المشتهيات العقلية”13، كما يقول روح الله الخميني، والذين يُمكن أن يُفهم منه أن الزاهد لا يهدف إلا للسير إلى الله سبحانه، وترك ما سواه؛ فما يقرّبه من ربه يتعلّمه، ولو كان صعباً وثقيلاً، وما يُبعده عن الله تعالى، أو، على الأقل، لا يقرّبه منه، يتركه، ولو كان علماً لذيذاً.

معرفة النفس: تشدد النصوص الإسلامية بشكل بالغ على معرفة النفس ودوافعها ومحاسبتها، وذلك لأنها محورية في بناء الذات، وتهذيبها، وفي معرفة الله، فعن النبي محمد (ص): “مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّه‏”14. ولكن هذه المعرفة لا تُحصّل من الكتب، وإن ساعدت أول الأمر على تبيان ما المقصود من معرفة النفس، وكيف نعرف أنفسنا ونحاسبها، بل من التأمّل الدقيق والمتواصل في النفس. وتؤدي معرفة النفس إلى التقليل من تلقي المعلومات من الخارج، وذلك بدفع الإنسان إلى أن ينظر في أعماق نفسه، والتأمل في حاله وسلوكه وعواطفه، بدل الاكتفاء بمعرفة الخارج. كما تؤدي إلى تخصيص وقت يومي، ودوري خلال اليوم، للتأمل في حال النفس وما تقوم به، وإلى التوقف الدوري عن التشتت الخارجي، وهذا يشكلّ تطبيقاً لحلّ التوقف الدوري.

المصادر هي شروط: وهذه المصادر السابقة للعلم النوراني هي أيضاً شروط لطلب العلم، وقد ركّزت النصوص الدينية عليها، ولكن المقام لا يتسّع لنقل هذا التشديد. ونكتفي بنقل اقتباس من ـروح الله الخميني: “… العلم لا يهذّب الإنسان، بل قد يبعث به إلى جهنم…الإنسان لا يصلح بالعلم بل بالتزكية، فالتزكية مقدّمة على كل شيء. فالطالب…يجب أن تكون التزكية عنده مقارنة للدرس غير منفكّة عنه.”15


  1. سورة البقرة: 282.

  2. سورة الأنفال: 29.

  3. سورة الأعراف: 96.

  4. سورة الطلاق: 2-3.

  5. سورة العنكبوت: 69.

  6. François Fénelon, The Seeking Heart (Sargent, Ga.: Christian Books Publishing House, 1992), 97, 110, from:

    Miller, Surviving Information Overload, 163-164.

  7. المجلسي، بحار الأنوار، 53: 326.

  8. الخميني، الأربعون حديثاً، 79.

  9. الديلمي، إرشاد القلوب إلى الصواب، 1: 189.

  10. المجلسي، بحار الأنوار، 74: 80.

  11. الشيخ الطوسي، الأمالي. ط1. تحقيق/تصحيح: مؤسسة البعثة (قم: دار الثقافة، 1993م / 1414هـ)، 531.

  12. ابن شعبة الحراني، تحف العقول، 223-224.

  13. الخميني، جنود العقل والجهل، 292.

  14. المجلسي، بحار الأنوار، 2: 32.

  15. الخميني، صحيفة نور‏، ‏19: 125.