اتباع القدوة وبعض تحدّياتها

ملخص: إنّ القدوة ضرورة ولها أهمية بالغة في حياة الإنسان. ولكن قد تواجه الإنسان تحديات عديدة في أثناء اتباعه للقدوة قد تؤدي به إلى ترك الاقتداء.

وتعطي القدوة نموذجاً عملياً واضحاً في سلوك الإنسان في حياته، مع ربه، أو نفسه، أو مجتمعه. وهي تغني عن الكثير من الكلام النظري والاستدلالات الطويلة والجدالات حول الطريقة المثلى للعيش والتفاعل مع الأحداث؛ فمشهد واحد من حياة القدوة يوازي تأثير العديد من الكتب والمحاضرات حول طريقة العيش المثلى.

وتنطلق القدوة، أو فعل الاقتداء، من قيم مشتركة بين المقتدى ومن يقتدي به. وعليه يكون دور القدوة أنها تدفع وتشجّع على الارتقاء العملي في تطبيق القيم التي يؤمن بها أصلاً المُقتدي. فمثلاً، إذا اتخذ إنسان ما شخصاً معروفاً بشجاعته، فإن رؤية مشهد واحد من سلوك القدوة تدفعه إلى العمل وتعطيه من وضوح الهدف ما قد لا تستطيع أن تعطيه إياه محاضرات كثيرة حول أهمية الشجاعة ودورها في الحياة العزيزة والكريمة.

ويمكن طرح القدوة على أنّها نقيض الأسلوب المباشر واللفظي في التأثير على الناس. يقول عبد العظيم كريمي: إن معطيات آخر الأبحاث والدراسات في أكثر مراكز التعليم والتربية تطوراً تشير إلى أن أعمق المناهج التربوية وأكثرها تأثيراً تكمن في أبعد الأساليب عن النسق النظامي. ربما يثير هذا الاستنتاج دهشة للبعض، فكيف يمكن تغيير سلوك الشخص بنماذج غير نظامية وغير كلامية شفوية؟!1 وهذا ما يؤكّد على عمق تأثير السلوك العملي والقدورة العملية في سلوك الإنسان.

تحديات القدوة

وعند قيام الإنسان باتباع قدوة، يمكن أن تواجهه تحدّيات عديدة، نذكر منها:

1 – تضارب القدوات

ماذا لو اعتبر الإنسان أن مجموعة كبيرة من الشخصيات هم قدواته، فكيف يختار سلوكه في الحياة اقتداءً بمجموعة من الشخصيات قد تكون متعارضة في سلوكها أو تجمع بين أعمال عديدة في الحياة قد يكون من الصعب أو المستحيل أن يجمعها في حياته (كأن يقتدي بسياسي وعالم طبيعة وفيلسوف في الوقت نفسه)؟ فهل عليه أن يكون هو الحَكَم في تحديد من يقتدي في كل ظرف وزمان وموقف؟ أم عليه أن يتقدي بقدوة جامعة تقدّم له سلّم الأولويات في عصره؟

التفكير الثنائي

قد يحمل الإنسان نمطاً من التفكير يمكن أن نسمّيه بالتفكير الثنائي: أي كل شيء أو لا شيء؛ فإمّا أن يحقّق كل ما يريده أو يتركه برمّته. وتطبيقاً على القدوة، يرى الإنسان أن القدوة حقّقت مرحلة عالية في مجال ما، هو لا يستطيع تحقيقه (نتيجة ضعف إرادته أو طاقته أو ظروفه)، فيقرّر أن يهمل هذا المجال برمّته فلا يسعى إلى تحقيق تقدّم أو خطوة فيه.

تغيّر الظروف

إن شخصية القدوة وظروفها قد تختلف عن شخصية المقتدي وظروفه؛ فكلٌ له طاقاته ومهاراته وتربيته العائلية والاجتماعية وتأثيرات المحيط، بالإضافة إلى الظروف العامة المحيطة بحياة القدوة. ولذلك قد يقوم بمشاريع أو مسارات تناسب طاقاته وظروفه، وعليه يكون السؤال: كيف يقتدي الإنسان بالآخر رغم هذه الاختلافات؟ وهذا يقودنا إلى سؤال حول الثابت والمتغيّر في مسيرة الحياة. ورغم أن بعض جوانب هذا السؤال شائك ومعقّد وقد شغل كثيراً من المفكّرين، إلا أن ما يتعلّق بالقدوة ليس بهذا التعقيد دوماً. فسؤال القدوة يتعلّق بتحديد الأولويات واستلهام القيم والتحفيز على العمل، وليس مجرّد تحديد شامل لكل ما يجب أن يثبت في فكر القدوة وما يجب أن يتغيّر، فذلك ميدانه ميدان الفكر والبحث العلمي والاجتهادي.

ويمكن بسهولة القول بأن القدوة تسير بين خطي الثبات والتغيّر، فليس كل ما كان يقوم القدوة يظّل ثابتاً، فالزمن قد تغيّر. وليس كل ما كان يقوم به متغيّر، فهذا يعارض أن القدوة تتعلّق بمسيرة الحياة بشكل عام، والتي فيها قيم ثابتة لا تتغيّر مع الزمن، وهذا من جوهر الرؤية الدينية للإنسان. فالعبادة -مثلاً- قيمة أساسية ينبغي أن تتوفّر بمستوٍ عال في القدوة من رؤية إسلامية، وهي لا تتغيّر مع الزمن كما هو واضح.

تحدّي بنيوي

عند النظر إلى الكمّ الهائل والسيل الدائم للمعلومات السلبية على مواقع الإنترنت وللروحية السلبية والساخرة على وسائل التواصل وبين الناس، بحيث بات كل شيء محط التشكيك وسوء الظن وتوقّع السيء، يصبح من الطبيعي السؤال عن مكانة القدوة في النفوس؛ فكيف تتحقّق القدوة في ظل الطرح الدائم للشكوك حول عظمة القدوة ونقائها وسمو أهدافها؟! ففي ظل التعميم من دون دليل، وإسقاط الآخرين عبر مجرّد الشكوك والاحتمالات والشبهات، وقيمة الانفتاح التي تعني للبعض بأن يحتمل صدق الآخرين بما يقولونه كي لا يصنّف بأنه منغلق، فلا يعد ينظر إلى أحد بنظرة عالية وتقدير عميق.

كجواب على التحدي الأخير، يمكن الانطلاق من أن القدوة لا تتطلّب العصمة. فالشخص العصامي، على سبيل المثال، هو قدوة لمن يريد أن يكون عصامياً، ويمكن أن يكون الإنسان عصامياً من دون أن يكون معصوماً. ولكن القدوة الشاملة لا تصحّ إلا للمعصوم (ع)، والذي تُحدّد سيرته وأقواله معالم الحياة التي يريدها الله (تعالى) منّا. وضمن هذه القدوة الشاملة، تكون القدوة الخاصة تابعةً لها.


آخر تحديث: 13 كانون الثاني 2020.

نشر: 4 كانون الثاني 2020.


  1. كريمي، التربية الصادمة، 258.↩︎