تأثيرات الإنترنت بحسب علم الدماغ
ملخص: تعرض هذه المقالة أبرز الأدلة ونتائج دراسات علم الدماغ التي ساقها Nicholas Carr عن تأثيرات استخدام الإنترنت على أدمغتنا، في كتابه المياه الضحلة: ماذا تفعل الإنترنت في عقولنا؟
، الصادر عام 2010، والذي يعرض دراسات ذات نتائج بالغة الأهمية والتأثير على طريقة عمل أدمغتنا عندما نستخدم الإنترنت، ولو كان هذا الاستخدام تعلّماً وبحثاً عن المعلومات المفيدة!
تعرض هذه المقالة أبرز الأدلة ونتائج دراسات علم الدماغ التي ساقها Nicholas Carr عن تأثيرات استخدام الإنترنت على أدمغتنا، في الفصل السابع من كتابه المياه الضحلة1: ماذا تفعل الإنترنت في عقولنا؟
، الصادر عام 2010 2.
يذكر Carr في بداية الفصل أنه يتمحور حول السؤال التالي: «ماذا يمكن أن يخبرنا العلم عن التأثيرات الفعلية لاستخدام الإنترنت على طريقة عمل دماغنا؟»، والذي يعتبره بأنّه «لا شك سيكون محور بحث ضخم في السنوات القادمة. ولكن نحن أصلاً نعرف الكثير، أو نستطيع أن نتنبّأ (من دون دليل حاسم). وبدت الأخبار أكثر إزعاجاً (disturbing) مما تصوّرت».
ويضيف: «إن عدداً كبيراً من الدراسات من قبل علماء نفس، وعلماء أعصاب، وتربويين، ومصممي مواقعي إنترنت تشير إلى نفس النتيجة، وهي أنّه عندما نكون على الإنترنت، فإننا ندخل في بيئة تشجّع على القراءة الخاطفة (cursory)، والتفكير العَجِل، والمشتت، والتعلّم السطحي. ومن الممكن أن تفكّر بعمق عندما تتصفّح الإنترنت، كما هو ممكن أن تفكّر بسطحية عندما تقرأ كتاب، ولكن التفكير المعمّق ليس ما تشجّع التكنولوجيا عليه وتثيب عليه».
دور الإثارات
«إن شيئاً واحداً هو واضح جداً: إذا كان علينا أن نخترع وسيطاً (medium) يقوم بإعادة وصل داراتنا الدماغية (mental circuits) بأسرع وأشمل ما يمكن، في ظل ما نعرف اليوم عن قابلية الليونة للدماغ (brain’s plasticity)، فإننا قد ننتهي بتصميم شيء شبيه بالإنترنت، ويعمل بشكل كبير مثلها. … تعطي الإنترنت بشكل دقيق ذلك النوع من الإثارة البصرية والذهنية -متكرر، قوي، تفاعلي، مُسبب للإدمان- الذي وُجد أن يؤدي إلى تغيّرات (alterations) قوي وسريعة في دارات الدماغ (circuts) ومهامه. كما يفعّل الإنترنت كل حواسنا -باستثناء، حتّى اليوم، الشم والتذوّق- ويفعّلها بشكل متوازي».
«ويوفّر الإنترنت نظام عالي السرعة لايصال الاستجابات والعطايا –تعزيزات إيجابية
(positive reinforcements) بمصطلح علم النفس- والتي تشجّع على تكرار الأفعال الجسدية والذهنية. عندما نضغط على رابط، نحصل على شيء جديد ننظر إليه ونحكم عليه (evaluate)، وعندما نبحث عبر غوغل على كلمة مفتاح تصلنا، بلمح البصر، لائحة من المعلومات المثيرة للاهتمام لنقوّمها (appraise)، وعندما نرسل نصّاً أو رسالة آنية أو رسالة بريدية، نحصل غالباً على جواب في غضون ثوان أو دقائق… عندما نرسل تغريدة على تويتر، نحصل على أتباع جدد، وعندما نكتب منشوراً على مدوّنة (blog) نحصل على تعليقات من القراء… إن التفاعلية للإنترنت تعطينا أدوات فعّالة لايجاد معلومات، وللتعبير عن أنفسنا وللحديث مع الآخرين. ولكنها أيضاً تحوّلنا إلى جرذان مختبر نضغط على الرافعات لنحصل على حبات بالغة الصغر من التغذية الاجتماعية أو الفكرية».
«تستولي الإنترنت على اهتمامنا بإصرار أعظم بكثير مما فعله التلفزيون أو الراديو أو الصحيفة الصباحية. … ما نراه هو ذهن مستحوذ (consumed) من قِبَل هذه الوسيلة. عندما نكون على الإنترنت، نكون غالباً غير مكترثين لكل شيء آخر يدور حولنا. ويختفي العالم الحقيقي عندما نعالج فيضان الرموز والإثارات الآتية من أجهزتنا.
«إن تفاعلية الإنترنت تقوّي هذه النتيجة أيضاً…. وضعنا الاجتماعي -بشكل أو بآخر- يكون حاضراً دائماً، وفي خطر دائماً. والوعي الذاتي الذي يأتي من جراء ذلك، وأحياناً الخوف، يعظّم قوة تدخّلنا مع الوسيط هذا… اليوم المراهقون يرسلون ويتلقّون عادة رسالة كل بضع دقائق على مدار ساعات يقظتهم».
الشتت
«يحتوي استخدامنا للإنترنت عدة مفارقات، ولكن المفارقة التي تَعِدُ أن تحمل التأثير الأضخم على طريقة تفكيرنا في المدى الطويل هي التالي: الإنترنت يأسر اهتمامنا فقط ليقوم بتشظّيه 3؛ نركّز بشدة على هذا الوسيط بنفسه، وعلى الشاشة كثيرة الوميض (flickering)، ولكن نحن مشتتون من خلال التوزيع السيّال للرسائل والإثارات المتنافسة على هذا الوسيط 4. إذا كان تسلسل الكلمات عبر الصفحات المطبوعة يُضعف شَرَهَنا (craving) لنكون مُخدّرين بالإثارة الذهنية (inundated by mental stimulation)، فإن الإنترنت يُدلّل (indulges) هذا الشره.
في إحدى الدراسات التي قام بها Gary Small، استاذ العلاج النفسي في جامعة UCLA ومدير مركز الذاكرة والشيخوخة، وزميلان له، تم تسليط الضوء على الفروقات بين قراءة صفحات الإنترنت وقراءة الكتب، ووجدت أنه عندما يبحث الناس على الإنترنت فإنهم يظهرون أنماط من النشاط الدماغي تختلف بشكل كبير عن تلك التي تظهر عندما يقرؤون نصوص مشابهة للكتب.
«ولدى قراء الكتب نشاط كبير في المناطق المتعلّقة باللغة والذاكرة والمعالجة البصرية ولكنهم لا يظهرون نشاطاً كبيراً في المناطق الأمامية (prefrontal) المرتبطة باتخاذ القرارات وحل المشاكل. وبالمقابل، الذين لديهم خبرة باستخدام الإنترنت يظهرون نشاطاً مركّزاً على كل مناطق الدماغ عندما يتصفحون ويبحثون صفحات الإنترنت».
بحسب Small، فإن البحث والتصفح يبدو أن يمرّن الدماغ بطريقة شبيهة بما يفعله حل لعبة كلمات متقاطعة (crossword puzzles).
ولكن النشاط المركّز في أدمغة المتصفحين يشير أيضاً لماذا تصبح القراءة المعمّقة والأنشطة الأخرى للتركيز المستدام، أكثر صعوبة على الإنترنت. فإن عليهم أن يقوّموا الروابط (links) واتخاذ خيارات تصفّح متعلّقة بها، وفي نفس الوقت، أن يعالجوا إثارات (stimuli) بصرية عابرة ومتعدّدة، والتي تستوجب تنسيق (coordination) ذهني متواصل واتخاذ قرار، وهذا ما يشتت الدماغ عن تفسير النص أو معلومات أخرى.
«وكلّما نصادف، كقراء، رابطاً، علينا أن نتوقّف، ولو لجزء من الثانية، للسماح بالمنطقة الأمامية (prefrontal cortex) لتقويم إذا كنا سنضغط على الرابط أم لا. إنّ إعادة توجيه (redirection) مواردنا الذهنية من قراءة الكلمات إلى اتخاذ حكم، يمكن أن يكون غير مُدرك (imperceptible) من قبلنا فأدمغتنا سريعة. ولكن ظهر أن هذا يُضعف (impede) الفهم والاسترجاع (retention) ، خصوصاً عندما تحصل إعادة التوجيه هذه بشكل متكرّر…».
«إن قدرتنا على القيام بالربط الذهني الغني الذي يتشكّل عندما نقرأ بعمق ومن دون تشتت، يصبح غير مفعّل إلى حدٍ كبير».
وهنا يصل إلى لبّ الاستدلال على تأثير طبيعة التشتت في الإنترنت على التفكير المعمّق: «وإذا كان صحيحاً أن قراءة الكتب تثير الحواس بشكل أقل، مقاربة بالإنترنت، فإن نفس هذا الأمر هو ما يجعل قراءة الكتب نشاطاً ذهنياً مثمراً بشكل كبير؛ عندما تسمح لنا الكتب بتصفية (filter) التشتتات وتهدئ نشاطات حل المشكلات في الفلقات (المناطق) الأمامية للدماغ (frontal lobes). إن القراءة العميقة تصبح شكلاً من التفكير العميق».
«إن ذهن من لديه خبرة في قراءة الكتب، هو ذهن هادئ، وليس مضطرب (buzzing). عندما يكون الأمر متعلّقاً بوصلات الأعصاب (neurons)، من الخطأ أن نفترض أن الأكثر هو أفضل (that more is better
)».
إغراق الذاكرة العاملة
وينتقل Carr إلى الحديث عن دور الذاكرة في هذا الإطار، ويستند إلى عالم النفس التربوي الأسترالي John Sweller، الذي أمضى ثلاثة عقود يدرس كيف تعالج أدمغتنا المعلومات، وتحديداً كيف نتعلّم. يقول Sweller: «أن أدمغتنا تحتوي نوعين مختلفين تماماً من الذاكرة: القصيرة الأجل والطويلة الأجل. نحن نحفظ انطباعاتنا وإحساساتنا وأفكارنا الآنية في الذاكرة القصيرة الأجل، والتي عادة تبقى ثوان معدودة».
«وإحدى أنواع الذاكرة القصيرة الأجل تدعى الذاكرة العاملة (working memory) ، والتي تلعب دوراً محورياً في نقل المعلومات إلى الذاكرة الطويلة الأجل، وتبعاً، في خلق مخزننا الشخصي من المعرفة».
«ولكن علماء الدماغ توصلّوا إلى إدراك أن الذاكرة الطويلة الأجل هي حقيقة مكان الفهم. فهي تخزّن ليس فقط الحقائق (facts) بل مفاهيم معقّدة، أو نماذج (schemas). وعبر تنظيم قطع المعلومات المتناثرة بشكل أنماط من المعرفة، تعطي النماذج تلك العمق والغنى لتفكيرنا.
«إن عمق ذكائنا مرتبط بقدرتنا على نقل المعلومات من الذاكرة العاملة إلى الذاكرة الطويلة الأجل وحبكها بالنماذج. ولكن الانتقال من الذاكرة العاملة إلى الطويلة الأجل هو عنق الزجاجة الأساسي لدماغنا. وعلى عكس الذاكرة الطويلة الأجل، والتي لديها مساحة تخزين هائلة، فإن الذاكرة العاملة قادرة على أن تحوي عدد قليل جداً من المعلومات».
ومصطلح عنق الزجاجة
يستعمل عند الحديث عن النقطة الأبط في مسير معالجة المعلومات. وعليه يكون على تلك المعالجة أن تأخذ بالحسبان وجود هذه النقطة البطيئة والسير وفق قدرتها، وعدم تحميلها فوق قدرتها ولو كان هناك أجزاء أخرى قادرة على ذلك.
«وبحسب Sweller، فإن الدليل الحالي يشير إلى أننا يمكننا معالجة اثنين إلى أربعة عناصر -لا أكثر_ في وقت واحد».
وهذه العناصر التي يمكننا أن نضعنا في الذاكرة العاملة ستزول بسرعة في حال لم نقم بإنعاشها (refresh) عبر التمرين (rehearsal) .
عندما تقوم وسائل الإعلام بالتحكّم في سرعة (velocity) وكثافة (intensity) تدفّق المعلومات، فإنها تفرض تأثيراً قوياً على هذه العملية (الانتقال إلى الذاكرة الطويلة الأجل).
«عندما نقرأ كتاباً، فإن حنفية (صنبور) المعلومات تقدّم تقطيراً مستقراً يمكن التحكم عبر وتيرة قراءتنا. عبر تركيزنا المركّز على النص، يمكننا نقل كل أو معظم المعلومات، رويداً رويداً، إلى الذاكرة الطويلة الأجل، وتشكيل (forge) الروابط الغنية الضرورية لتشكيل النماذج (schemas)».
«ومع الإنترنت، فإننا نواجه حنفيات معلومات متعدّدة، وكلّها بالتدفّق الأقصى. فقبضتنا الصغيرة تمتلىء عندما نعجل من حنفية إلى أخرى. سنصبح قادرين على نقل قسم صغير فقط من المعلومات إلى الذاكرة الطويلة الأجل، وما ننقله حقيقة هو خليق من نقاط من حنفيات مختلفة، وليس تيّار متواصل ومتجانس (coherent) من مصدر واحد».
وتشير الاختبارات أنه عندما نصل إلى حدود الذاكرة العاملة (أي ملئها بالمعلومات إلى حد طاقتها القصوى)، يصبح من الصعب التمييز بين المعلومات المتعلّقة (بما نريد)، وبين غير المتعلّقة… نصبح مستهلكين (consumers) غافلين (mindless) للبيانات.
ويشير Sweller إلى أنه هناك عدة مصادر للعبء الذهني الزائد (cognitive overload). ولكن اثنان من أبرزها -ودائماً بحسب Sweller- هما: حل المشكلات الدخيلة (extraneous problem-solving) والانتباه المقسّم (divided attention). ويصادف أن هذين الأمرين هما «أبرز مميزات الإنترنت كوسائل نقل معلومات. فاستخدامها يشغّل الدماغ كما يفعل حل أحجيات الكلمات المتقاطعة بالدماغ. ولكن هذا التمرين المتطلّب، عندما يكون هو عمدة طريقة تفكيرنا، يعيق التعلّم والتفكير العميقان.» وهنا يقترح الكاتب أن يقوم القارئ بهذه التجربة لمعايشة حقيقة ما يجري عند القراءة المتشعّبة من الإنترنت: «حاول قراءة كتاب وأنت تحلّ أحجية كلمات متقاطعة؛ هذه هو البيئة الفكرية للإنترنت».
ثم يذكر Carr أن الأبحاث تستمر في إظهار أن من يقرأ نص طولي (linear) (أي من دون تشعّبات إلى نصوص أخرى، كما في حالة النقر على روابط فيه لقراءة مقالات أخرى)، يفهم ويحفظ ويتعلّم بشكل أكبر عن أولئك الذي يقرؤان نصاً فيه وابل من الروابط (peppered with links).
كما أظهرت دراسة أخرى للباحث Erping Zhu أن هناك علاقة متبادلة قوية (strong correlation) بين عدد الروابط في النص وبين ضعف التوجّه (disorientation) أو العبء الذهني الزائد (cognitive overload).
يقول Zhu: «إن القراءة والفهم يتطلّبات تثبيت علاقات بين المفاهيم والتوصّل لخلاصات وتفعيل المعرفة السابقة وجمع (synthesizing) الأفكار الأساسية. إن ضعف التوجّه أو العبء الذهني الزائد يمكن أن يعيق النشاطات الذهنية للقراءة والفهم».
الوسائط المتعدّدة
وأخيراً ننتقل إلى القسم ما قبل الأخير من صفات الإنترنت هو احتواؤها على الوسائط المتعدّدة (multimedia): الصور والصوت والفيديو.
«ومثلما اعتقد رائدوا الراوابط (hypertext) أنها توفّر تجربة تعليمية أغنى للقراء، افترض العديد من التربويين أن تعدد الوسائط أو الوسيط الغني
(rich media)، كما يسمّى أحياناً، سيعمّق الفهم ويقوّي التعلّم… ولكن هذا الافتراض، والذي قُبٍل طويلاً من دون دليل كاف، نقضه البحث العلمي… إن تقسيم الانتباه المطلوب من الوسائط المتعدّدة تستهلك طاقاتنا الذهنية وتقلّل تعلّمنا وتضعف فهمنا. عندما يكون الأمر متعلّقاً بمدّ الدماغ بأشياء فكرية، الأكثر يمكن أن يكون أقل (more can be less
)»، كما مرّ سابقاً.
تنفيذ المهام بالتوازي
والصفة الأخيرة من صفات الإنترنت هي أن التجوّل فيها يتطلّب شكلاً شديداً من القيام بتعدّد مهام ذهنية في وقت واحد (multitasking). فالإضافة إلى أن هذا «يغرق ذاكرتنا العاملة بالمعلومات، فإن التنقّل المتزامن (juggling) يفرض ما يسميه علماء الدماغ كلفة التبديل
(switching costs) على إدراكنا (cognition). فكل مرّة ننقل انتباهنا، يكون على الدماغ أن يعيد توجيه نفسه، وهذا يضيف على إرهاق الموارد الذهنية. تشرح Maggie Jackson في كتابها مُشتَّت
(Distracted) عن التنفيذ المتوازي (multitasking) أن الدماغ يتطلّب وقتاً ليغيّر أهدافه، وتذكّر القواعد المطلوبة للعمل الجديد، وحجب التدخّلات الذهنية للعمل السابق والذي لا يزال ناشطاً (vivid). وتظهر دراسات عديدة أن التنقّل بين عملين فقط يمكن أن يضيف عبئاً ذهنياً بشكل كبير، وهذا ما يضعف تفكيرنا ويزيد احتمال أن نهمل أو نسيء فهم معلومات مهمة».
وأخيراً يقول Jordan Grafman، رئيس وحدة علم الدماغ الإدراكي (cognitive neuroscience ) في المعهد الوطني للأمراض العصبية والسكتة الدماغية (National Institute of Neurological Disorders and Stroke) أنه: «كلّما زاد قيام الشخص بتنفيذ متوازي للأعمال، كلما صار أقل تأنياً (deliberative) وأقل قدرة على التفكير وايجاد للمشكلة، فيصبح أكثر احتمالاً للاعتماد على الأفكار والحلول التقليدية بدل تحدّي المشكلات بنمط تفكير مبتكر».
كما وجد باحثون من جامعة Stanford عام 2009 أن الذين يقومون بأعمال متوازية بكثرة (heavy multitaskers) كانوا «أكثر تعرَضاً بكثير للتشتت بسهولة (much more easily distracted
) بسبب إيثارات غير متعلّقة (بما يقومون به) في البيئة، وكانوا لديهم تحكّم أقل بكثير بمحتوى ذاكرتهم العاملة، وكانوا بشكل عام أقل قدرة بكثير من تثبيت انتباههم على عمل واحد».
خلاصة
يمكن أن نذكر كخلاصة ما ذكرته Patricia Greenfield في مقالة لها في مجلة Science المُحكمة (peer-reviwed)، عام 2009، وهي عالمة نفس نمو، تدرّس في جامعة UCLA، والتي راجعت أكثر من خمسين دراسة عن تأثيرات الأنواع المتعدّدة من الوسائط على ذكاء الناس وقدرتهم على التعلّم: «إن كل وسيط يطوّر بعض المهارات الإدراكية على حساب أخرى”. فاعتمادنا المتزايد على الإنترنت وعدد آخر من التكنولوجيا المستندة إلى شاشة، قد قاد إلى تطوّر واسع الانتشار ومعقّد من المهارات البصرية-المكانية. فأصبحنا أكثر قدرة -على سبيل المثال- على تدوير (rotation) أشياء في ذهننا أفضل مما كنّا قادرين عليه. ولكن تطوّر قدراتنا الجديدة في الذكاء البصري-المكاني يمشي يداً بيد مع ضعف في قدراتنا على المعالجة المعمّقة التي هي أساس التحصيل الواعي للمعرفة والتحليل الاستقرائي والتفكير النقدي والخيال والتأمل».
وتضيف: «إن الإنترنت يجعلنا أكثر ذكاءً ولكن فقط إذا عرّفنا الذكاء بمعايير الإنترنت نفسها. فإذا أخذنا نظرة أكثر شمولاً وأكثر تقليدية للذكاء -إذا نظرنا إلى عمق تفكيرنا بدل سرعته فقط- علينا أن نصل إلى نتيجة مختلفة وأكثر سوداوية إلى حد بعيد (considerably darker)».
«إنّ المهام الذهنية التي نخسرها في هذا السياق هي تلك التي تدعم التفكير الهادئ والطَوْلي (linear) – وهي تلك التي نستخدمها في عبور نص طويل أو برهان معقّد، أو عندما نتأمّل تجاربنا أو ظاهرة خارجية أو داخلية. والمهام التي نفوز بها هي تلك التي تساعد في ايجاد سريع وتصنيف وتقويم أجزاء من معلومات متفرّقة بأشكال مختلفة، وتلك التي تساعدنا في حفظ تحمّلنا الذهني (mental bearings) عندما نكون متعرّضين لوابل من المثيرات. وهذه المهام تشبه كثيراً -وهذا ليس صدفة- تلك المهام التي يقوم بها الكمبيوتر، والتي هي مبرمجة لنقل عالي السرعة للبيانات داخل وخارج الذاكرة»، أي إن الكمبيوتر يقوم بإعادة تشكيل دماغنا ليعمل بصورة أقرب إلى طريقة عمله هو!
العلاج
من الطبيعي أن يكون التساؤل الطبيعي بعد عرض النتائج السابقة هو عن كيفية العلاج. هل يكفي أن نتفادى أن نكون ضحية كل تأثير على حدى من التاثيرات السابقة؟ أي نقوم بالتركيز ومنع التشتت وتخفيف التشعّب عند القراءة وتقليل عدد الوسائط المتعددة عند التصفّح وعدم تنفيذ متوازي لمهام متطلّبة ذهنياً؟
يمكن أن يُعتبر هذا الحل علاج مبدئي وواضح ولكنه عملياً يحتاج إلى معالجة أعمق لطريقة تعاطينا مع الإنترنت بشكل يصبح تطبيق العادات المذكورة أعلاه سهلاً ويسيراً، وبل محبّباً للإنسان، وليس كاتباع حمية غذائية لمن يحب الأكل فيشعر بالحرمان والضيق كل الوقت نتيجة هذه الحمية الضرورية والمكره عليها. وقد حاول الفصل الرابع والخامس من الكتاب التأسيس لمقاربة نظرية وعملية لتفادي الوقوع في العادات والسلوكيات التي تشجّع عليها الإنترنت. ولا يتسّع المجال في هذه المقالة لاختصار هذه المقاربة، فيمكن مراجعتها في الكتاب.
آخر تحديث: 13 كانون الثاني 2020.
نشر: 4 كانون الثاني 2020.
-
ترجم أحد الكتّاب اسم هذا الكتاب بـ«السطحية ». وعلى الرغم من أن اسم الصفة المشتقة من الاسم تعني ذلك في الإنكليزية، إلا أن صيغة الجمع للاسم تحمل معنى آخر وهو المياة الضحلة. وما يعزّز هذه الترجمة أن غلاف نسخة الكتاب الصوتي (audiobook) للكتاب هو صورة مياه.↩︎
-
Nicholas Carr, The Shallows: What the Internet is Doing to our Brains, 1st ed. (New York: W. W. Norton & Company, 2010).↩︎
-
(
the Net seizes our attention only to scatter
)↩︎ -
(
medium’s rapid-fire delivery of competing messages and stimuli.
)↩︎