أسباب نقد التكنولوجيا

يعزّز واقع الانبهار الكبير بالتكنولوجيا اليوم أهمية النظرية النقدية لها وضرورة التساؤل عن أسس هذا الانبهار. وبما أنّ نقد التكنولوجيا ليس هدف الدراسة الأساس، ويخرج عن نطاقها، فإن الهدف من هذا القسم هو تشكيل نواة نظرية لحلول من قبيل التوقّف الدوري عن استخدام التكنولوجيا وتطويعها لتناسب أهداف الإنسان، كما سيأتي ضمن الفصل الخامس.

ويمكن البدء بهذا النقد عبر طرق أسئلة من قبيل: هل صمّمت التكنولوجيا أساساً لتقوم بما تقوم به اليوم؟هل تعزّز ميوله التكاملية أم التسافلية؟ هل تناسب طبيعة الإنسان؟ هل هي حيادية في نقل المعلومات للناس؟

هدف التصميم ويمكن أن يكون النقد أكثر جذرية عبر السؤال: هل اختُرع الحاسوب، ومن ثم شبكة الإنترنت، لتقوم بالأعمال التي تقوم بها اليوم؟ إن نظرة سريعة إلى تاريخ الحاسوب والإنترنت كافٍ لنتيقن أن هذه الاختراعات لم تُصمم أصلاً لتقوم بما تقوم به اليوم، بل صُممت لأهداف بعيدة جداً عن أهدافها الحالية. ولهذه الحقيقة نتائج عديدة على مقاربتنا النقدية لما تقوم به ولآثارها على الإنسان والمجتمع. يقول Geert Lovink: “فالحاسوب بدأ كآلة حاسبة، واستُخدم كآلة حرب، لكنه سار بمسار طويل ومتعرج، ليعيد تشكيل ذاته ليصبح آلة إنسانية عالمية، تخدم حاجاتنا واهتماماتنا اللامتناهية والمتنوعة، في مجال المعلومات والاتصالات”1 ويضيف: “فقدت المؤسسة العلمية التحكم بواحدٍ من أبرز مشاريعها البحثية، وهو تصميم وامتلاك شبكات الحاسوب التي يستخدمها الآن المليارات من البشر.”2

وتُصمم التكنولوجيا، بدرجة كبيرة، من قبل الشركات لتحقيق الربح التجاري، فهي، بحسب المنطق التجاري، تصمم بشكل أساسي لحاجات الشريحة الأوسع من الجيل الجديد، كالترفيه (الألعاب والأفلام والموسيقى) والسرعة والسهولة. وهذه الحاجات تختلف جذرياً عن حاجات طالب المعرفة الذي يريد التركيز والتحكّم الكبير في بيئته الرقمية وتخصيصها بحسب نمط تعلّمه. يقول Nicholas Carr إن الإنترنت “لم يُبنَ من قبل التربويين بهدف جعل التعليم بالشكل الأفضل (optimize)…هو، بتصميمه، نظام تشتيت، آلة موجهة إلى تقسيم الانتباه.”3

تعزيز الميول ويقول Steve Talbott في كتابه “أجهزة الروح”: "إن التكنولوجيا هي أملنا إذا قبلناها كعدو لنا، ولكنها، كصديق، ستدمّرنا… لأنها تعبّر عن ميولنا الحاكمة، وضعفنا المُسيطر، أو انحيازنا. والطريق الوحيد لنكون كاملين، وصحيين هو بالنضال ضد كل ما يقوّي سوء توازننا الموجود… الطفرة لهذه التقدّمات بذاتها تستوجب منّا مقاومة أشد لمغريات التشتت الذهني. علينا أن نعمل بشكل أصعب من ذي قبل لتجنّب اضمحلال خيوط المعنى تحت ثقل تكدّس معلومات لم يتمّ هضمها.4

عدم التناسب مع طبيعة الإنسان يقول J.B. Strother وJan M. Ulijn: "تتيح التكنولوجيا لنا إمكانيات وتنفيذ أعمال واعتماد عادات كثيرة لا تناسب طبيعة الإنسان في حياته. مثلاً، أتاحت وسائل التواصل الحديثة والإنترنت تواصلاً لا محدوداً للجميع مع الجميع وعبر طرق عدة. ونجد توجّهاً اجتماعياً يتوقع أن يكون الإنسان متوفراً على الإنترنت 24 ساعة في اليوم، و7 أيام في الأسبوع. كذلك تتيح هذه الوسائل الوصول المجاني وغير متزامن لانتباه الجميع. ونجد قبولاً عاماً لكون الإنسان مشتتاً كل الوقت، ووقته متقطع من الرد على الرسائل المرسلة إليه. فالكمبيوتر يسمح بالقيام بأعمال متوازية (Multi-tasking) وبتنقل سريع بين عمل وآخر. ونجد في المجتمع توقعاً مضمراً أن الناس جيدون في القيام بأعمال عدة في وقت معين، وبالتنقل السريع بين الأعمال."5

فهل نقوم بكل ما هو ممكن تقنياً، ومُتاح فعله عبر البرامج المعلوماتية؟! مثلاً يتيح تطبيق تلغرام (Telegram) إنشاء مجموعة من خمسة آلاف عضو6، كل منهم يمكنه المشاركة عليه، فهل هذا العدد مفيد للتواصل والحوار الفعّال؟ أم نستخدم التكنولوجيا لكي تخدم أهدافنا، والتي نحددها لوحدنا، وليس عبر النظر إلا ما توفّره هي من إمكانات.

تغيير الرسالة يُعتبر Neil Postman من الكتّاب الذين انتقدوا التكنولوجيا نقداً بنيوياً، في عصر التلفزيون. يذكر أن التكنولوجيا أنّها تغيّر من المحتوى المنقول عبرها، فيشرح، استناداً إلى مدرسة Marshall McLuhan، كيف أن كل وسيط (medium)، سواءٌ أكان التلفزيون، أو الراديو أو الطباعة، تغيّر الرسالة نفسها وتجعلها منحازة. فالكلمة المكتوبة، مثلاً، تتجه لانحياز الرسالة صوب التفكير الخطي (linear)، والمنطق والشرح والاستجابة المتأخرة، بينما يتجه الفيديو لانحياز الرسالة صوب عالم غُميضة (peek-a-book world): معلومات بديهية، تختفي خلال ثوان، وصور تومض بشكل دائم، لكن عند المُشاهد صعوبة الترك، مهما كان الموضوع. ولأن الوسيط مسلٍّ بشكل كبير ويدعونا للانغماس. وهذه الانحيازات تعني أن الأخبار من الجريدة والتلفزيون، حتى لو كانوا من نفس الموضوع، توصل رسالتين مختلفتين.…7

خلاصة يقول Omraam Mikhaël Aïvanhov: "إن العلم والتقنية توفّران لك كلّ يوم أجهزة ومنتوجات جديدة تسهّل الحياة، فليس عليك أن تكون مهملاً. يجب أن تعتبر هذه التحسينات كإمكانات لتكرّس نفسك لنشاطات روحيّة. فالمعنى الحقيقي للتقدّم التقني هو تحرير الإنسان، نعم تحريره في سبيل أعمال أخرى. كم من أناس غمرتهم المادّة، قد قرفوا إلى حدّ لم يعودوا يشعرون بأدنى فرح، لأنّه لم يعد في داخلهم أيّ نشاط وأيّ حياة مُفعمة."8


  1. Lovink, Networks without a Cause, 148.

  2. Ibid., 150.

  3. Nicholas Carr, The shallows: What the internet is doing to our brains. 1st ed. (New York: W. W. Norton & Company, 2010), 131.

  4. Steve Talbott, Devices of the Soul.

  5. Strother and Ulijn, “The challenge of information overload.”, 3.

  6. Telegram website, "Admins, Supergroups and More," https://telegram.org/blog/supergroups. Last updated: 25 Nov. 2015. Visit: 20 Oct. 2018.

  7. Niels Postman, Official page, http://neilpostman.org/.

  8. أيفانهوف أومرآم ميخائيل، قواعد ذهبيّة للحياة اليومية، 22.