مقاربة إصلاح النشر

يشدد الإسلام على نشر علمنا للناس ويعتبر أن نشره بمثابة زكاة له. يقول الإمام علي (ع): “زَكَاةُ الْعِلْمِ بَذْلُهُ لِمُسْتَحِقِّهِ وَإِجْهَادُ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ بِهِ”1. ولكن هذا النشر يخضع لشروط عديدة يساهم بعضها في معالجة مشكلة التضخّم. ويمكن تقسيم هذا الإصلاح إلى إصلاح الناشر لنفسه: عن طريق الإخلاص في النية، وتحديد الهدف من النشر، وإلى إصلاح مادة النشر: عن طريق جعله ذا نوعية وتوثيقه وربطه بالمصادر الأصلية.

الإخلاص في النشر يقول الشهيد الثاني: "يجب على الكاتب إخلاص النية لله تعالى‏ في كتابته (للعلم)… والقصد بها لغير الله تعالى من حظوظ النفس والدنيا… وقد تقدم من ذمه ووعيده ما فيه كفاية. ويزيد عنه خيراً أو شراً أنه موقع بيده ما يكون يوم القيامة حجة له أو عليه فلينظر ما يوقعه ويترتب على خطه ما يترتب من خير أو شر ومن سنة أو بدعة يعمل بها في حياته وبعد موته دهراً طويلاً فهو شريك في أجر من ينتفع به أو وزره فلينظر ما يسببه."2

النشر الهادف على الناشر أن يحدّد هدفه بدقة وعن وعي بمستوى وهموم المُتلقّي، مراعاة للتدرّج وقابليات الناس ولتحقيق الهدف المنشود من النشر. فالتواصل المباشر مع شخص معيّن لإخراجه من حيرة أو تردد أو للإجابة على سؤال عنده، خير من السعي إلى نشر عشرات المنشورات لعدد كبير من الأشخاص يومياً دون أي تأثير أحياناً غير الملل والضجر والإثقال عليهم. وفي الحديث عن الرسول الأكرم (ص): “أَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَلى‏ يَدَيْك رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَت‏”.3 وفي هذا دلالة واضحة على أهمية النوعية في النشر والتبليغ بعيداً عن معايير الكمية وأرقام المتابعين.

فعلى الناشر أن يعرف دوماً كيف يتلّقى الطرف الآخر الرسالة، وكيف يفهمها، وما هي إشكالاته عليها، وما هي مخاوفه وهواجسه منها، وما الذي يعيق تنفيذ ما يقتنع به من محتواها، وغيرها من المسائل التي تحتّم طرق مختلفة ومتوازية للتفاعل مع الآخر كالحوار، والنقاش، فضلاً عن الاستماع، والتي يبدو أن ثقافة الكمية في النشر لا تشجّع عليها.

التطبيق قبل النشر للتطبيق قبل النشر (أي عمل الناشر بمقتضى ما ينشره) أهمية كبيرة للناشر والمستهدف بالنشر على حد سواء. فبالنسبة للناشر، يعني التطبيق قيامه بأحد أهم شروط طلب العلم مع ما له من أهمية تم ذكرها سابقاً. وبالنسبة للمستهدف، يعني أنه سيتلقّى خطاباً أكثر تأثيراً عليه، وسيكون النشر أقل وتيرة بالنظر لحالة قلة العمل بالعلم في الواقع. يقول Omraam Mikhaël Aïvanhov إن هناك "قاعدة في الحياة الروحيّة تقول إنّه حين نتلقّى حقيقة ما، نشرع بعيشها قبل أن نودّ نقلها إلى من حولنا… يجب أن تجرّب حقيقة ما، وتجري معها التمارين، وعندما تصبح جزءاً لا يتجزأ منك، تكون قد انصهرت فيها لدرجة لا يمكن لأيّ شيء في العالم أن يجعلك تخسرها. في حين أنّه إن تلقّيت حقيقة ما وبدأت في اليوم التالي بالحديث عنها يمنة ويسرة فمن المؤكّد أنّها ستتركك… وتصبح أنت بعد ذلك ضعيفاً وتعساً من جديد. … عندما تتكلم عنها للآخرين [بعد تطبيقها] سيكون لها قوّة وقدرة عظيمتان بسبب لهجتك الصريحة فتقنعهم بها.4 ومن نفس التوجّه يقول علي كوراني: “إن قناعة المتكلم والخطيب والواعظ والكاتب وروحيته، هي التي تؤثر في الناس أكثر من فكره ومعلوماته التي يقدمها لهم؟! لأن كلماته تحمل أجزاءً من روحه، والمخاطَب يُحس بها ويراها، ويرى نوع إيمانه بما يقوله، فيؤثر ذلك فيه أكثر من المعادلات العقلية التي يتضمنها كلامه. وهذا يعني أن يقينك بأصول الدين وفروعه، وقناعتك بمعلوماتك التي تقدمها للناس، هي الأساس في تأثيرك فيهم. فإن كنت صاحب بصيرة ويقين فسيؤثر كلامك….5

توثيق النشر والمقصود منه ذكر مصدر المعلومات عند النشر، وهو من عادات الأمانة العلمية. والوضع البالغ السوء حوله في منشورات وسائل التواصل الاجتماعي وعلى الإنترنت بشكل عام، يستدعي أنْ يُبحث كمشكلة قائمة بذاتها.

إنّ أهمية التوثيق تنبع من النظر إلى المعلومات على أنّها علم أو معارف مفككّة، أي جرى تقسيمها أجزاءً قصيرة، ونُشرت بشكل فردي، غير متصل بسياقه وغير مرتبط بما قبله، وبما بعده. ولذلك، فإنّ عدم ذكر المصدر يعني أن القارئ سيجد صعوبة بالغة في معرفة سياق الكلام، وفهم مصطلحاته، ووضعه في سياقه الأصلي. وفي عصر السرعة والسهولة، فإن جَعْلَ أمرٍ ما صعباً يعني، عملياً، جعله من شبه المستحيل، وهذا يعني أنّه لن يرجع القارئ إلى النص الأصلي، وسيبني فهمه، أو عدم فهمه، على ما في المنشور فقط.

ويقول حيدر حب الله: "إن احترام الملكيات الفكرية والإبداعية للناس -بعيداً عن الجدل الإسلامي الفقهي في هذا الموضوع- صار ضرورةً أخلاقية ماسّة تسقط متجاهلها نفسه عن الاعتبار فيما بعد، وتصيّره إنساناً يتاجر بأفكار وجهود الآخرين ولو بطريقته الخاصّة… من هنا تمسّ الحاجة إلى إشاعة ثقافة التوثيق، فكلّما نقل الباحث شيئاً عن باحث آخر، وكانت فكرة الثاني مستمدةً من الأول، فمقتضى أخلاقية الأمانة العلمية توثيق المصدر بالدقة؛ تحرزاً عن التورّط في منافيات أخلاقية.6

الاختصار نقصد بالاختصار أن يقدّم الإنسان الفكرة أو الموضوع الذي عنده للغير بالكمية الأقل من المعلومات؛ فإذا كانت الفكرة تصل بمقالة من عشر صفحات، لا يكتب كتاباً، وإذا كانت تصل بصفحة، لا يكتب صفحات كثيرة.7

يشير Joe McCormack في كتابه: “مُختصر: قم بتأثير أكبر بكلام أقلّ” إلى أهمية الاختصار في عالم اليوم، حيث لم يعد عند الناس كثيرٌ من الوقت لأي شيء للقيام به، وحيث يملك الناس قدرة انتباه قصيرة (short attention span)، ولذلك لا بد من الاختصار في كل تواصلنا مع الآخر.8 ولكن الرغبة المفرطة في الاختصار قد تكون على حساب تقديم المعلومات بعمق، بما يُمكّنها من أن تكون ثابتة في الذهن، ومُحكمة الفهم. وكذلك فإن الاختصار قد يعني أن الإنسان استسلم، أو أقرّ بالأمر الواقع، وهو قُصْر مدة الانتباه عند المتلقّين، بل عزّزها، ولم يرفع من مستوى القراءة، ليفكروا بشكل أعمق، ولفهمٍ وتحليلٍ أطول، وترابطٍ أطول للأفكار.

وفي حال ليس لدى الناشر جديد يُذكر يمكنه أن يحيل القارئ لمن هو أعلم منه، ولو كان لدي شيء جديد، يبني على من سبقه في تقديم الجديد ويضيف ما لديه. ولهذه المسألة أهمية بالغة في تقليل التكرار في المؤلفات والمحاضرات والكتابات، والتي قد تجعل الإنتاج المعرفي برمّته -على الأقل عند بعض الناس- مصدر حيرة وتشتت، بدل أن يكون، مصدر معرفة. ويمكن أن نستلهم من بعض الأحاديث بعض العبر. ففي الحديث عن النبي محمد (ص): “…فَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.9 وفي حديث مشابه عن الإمام الرضا (ع): “مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ”.10

مسائل فقهية وتوجد ضوابط شرعية تتعلّق بنشر المنشورات غير الموثوقة. فمن استفتاءات علي خامنئي نقرأ السؤال الآتي: “ترد إلينا أحياناً عبر الواتساب رسائل نصّية دينية تحتوي على أحاديث وروايات واستفتاءات، هل يجوز إعادة إرسالها مع عدم الأمن من أن تكون ملفّقة أو غير صحيحة؟”11 وكان الجواب: 1- لا يجوز إرسال الاستفتاءات بدون بيّنة شرعيّة، أو الاطمئنان بصدورها عن مرجع التقليد، أو عن مكتبه الشرعيّ المأذون له من المرجع. 2- لا يجوز نسبة الروايات إلى المعصومين عليهم السلام مع عدم الاطمئنان إلى اعتبار سندها، ويمكن إرسالها بعنوان الحكاية مع الأمن من الوقوع في الفساد. وإلّا فلا يجوز.12

ومن الأسئلة القريبة للسؤال السابق: “ما هو حكم نشر الأخبار غير الموثوق من صحّتها على وسائل التواصل الاجتماعي؟”13، وكان الجواب: “إذا كان نشرها على نحو البتّ والجزم فلا يجوز، وأمّا إذا كان نشرها على نحو الاحتمال، فيجوز مع عدم ترتّب مفسدة أو الوقوع في الحرام.”14


  1. الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، 275.

  2. الشهيد الثاني، منية المريد، 342.

  3. الكليني، الكافي، 9: 410.

  4. أيفانهوف، قواعد ذهبيّة للحياة اليومية، 114-115.

  5. كوراني، إلى طالب العلم، 115. ولكن هل يعني التطبيق قبل النشر أن يكون الإنسان قد عمل بالعلم بشكل كامل ونهائي ودون نواقص؟ فهل لا نتكلّم عن ترك حب الدنيا إلاّ عندما لا يكون في قلوبنا أي درجة من حب الدنيا؟ بالنظر إلى سيرة العلماء في هذه المسألة، يمكن القول أنه يجب أن يكون الناشر ساعياً وفي طور العمل بما ينشر، من دون أن يكون بالضرورة قد أتمّ العمل بشكل كامل ونهائي؛ وإلا لا يعود بإمكان غير المعصومين (ع) أن يعظوا.

  6. حيدر حب الله، مسألة المنهج في الفكر الديني: وقفات وملاحظات. ط1 (بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 2007م)، 154. ومن المفارقة أن الغرب، وبينما ينتقد بشدة عقوبة الإسلام في السرقة، ويعتبرها قاسية جداً، هو أكثر تشدداً من المسلمين، في الأعم الأغلب، في موضوع سرقة الأفكار، فقد تتعرض سمعة كاتب عريق للتشويه إذا ما نقل صفحات قليلة من كتاب لغيره دون أن ينسب ذلك له.

  7. للمزيد يمكن مراجعة: حيدر حب الله، محاضرات حول مناهج التأليف والكتابة، 2014.

  8. Brief: Make a Bigger Impact by Saying Less (Wiley & Sons, 2014).

  9. الشيخ المفيد، الإختصاص.‏ ط1. تحقيق/تصحيح: علي أكبر غفاري ومحمود محرمي زرندي (قم: المؤتمر العالمي لالفية الشيخ المفيد، 1992م / 1413هـ)، 251.

  10. الإمام الرضا (ع)، الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (ع). ط1. تحقيق/تصحيح: مؤسسة آل البيت (ع) (مشهد: مؤسسة آل البيت عليهم السلام‏، 1985م / 1406هـ‏)، 384.

  11. مركز نون للتأليف والترجمة، فقه التواصل الاجتماعي. ط1 (بيروت: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، 2014م – 1435هـ)، 36-37. ويذكر الكتاب أنه “تمّت مراجعة المادة الفقهية والموافقة عليها من قبل مكتب الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي في بيروت.”

  12. المرجع نفسه، 37.

  13. المرجع نفسه، 46.

  14. المرجع نفسه، 46.