المعلومات كسمة لعصر ما بعد الحداثة
في فصله عن ضرورة تأمين مساحة للتأمل في التعلّم العملي (action learning)، يذكر Geert R. Egger تحدّيين أمام تأمين هذه المساحة. بداية يقول: إن آفاق تأمين مساحة (space) – وحتّى الدفاع عن مساحة- للتأمل بات يواجه ضغوط قاسية في العقود الأخيرة عندما تُقارن بالمفاهيم المثالية التي تمّ التركيز عليها أساساً في التعلّم العملي، عن طريق أمثال Reginald Revans: هناك موجتان أساس ساهمتا في بناء هذا الضغط بنظري. أولاها هي موجة اجتماعية عامة: الانتقال الشامل لنمط العيش من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، والذي أثمر
وتيرة” (rhythm) اجتماعية جديدة بالكامل >. 1
ويضيف: < عندما نظّر Revans لعمله الرائد في منتصف القرن العشرين، لم يكن أحد لديه أي تجربة مع الحواسيب والإنترنت وأجهزة الهاتف النقّال والفيديو الصوتي والطائرات النفاثة وغيرها. يحاجج البعض هنا أن الموضات الاجتماعية الكبرى توصف بشكل أمثل على مستويات تجريدية أعلى، مركّزة على قوى التغيير الأساسية… لذلك دعوني أركزّ على الأشياء (artefacts) كشاهد مادي على الانتقال من الحداثة إلى ما بات يميّز أنه ما بعد الحداثة. إذن باختصار، مند الأيام الأولى للعمل على هذا التعلّم، ازدادت سرعة أو وتيرة الآليات الاجتماعية بشكل هائل. إنّ عدداً متضائلاً من الناس ما زال يقدّر تمضية ثلاث ساعات سينما في مشاهدة سلسلة الأحداث البطيئة لفيلم صوت الموسيقى
(Sound of Music) في ستينات القرن الماضي. عدد متعاضم من الناس يفضّل أن يمتلك فيديو من ثلاث دقائق على جهازهم iPod Nano الشخصي ويشاهده في الوقت الذي يريد وفي المكان الذي يختاره >.
وهنا نصل إلى بيت القصيد والشاهد من المقالة، عندما يقول: < يمكن اعتبار ذلك مثال تافه (banal) ولكنه يحتوي تغير الذهنية الاجتماعية الأشمل التي وصفها الفيلسوف الفرنسي Jean Baudrillard بأنها الرغبة في القطع العجل (cut out) للتمهيد الطويل للأشياء (long building-up of things) والرغبة بإزالة كل ما يعيق في الطريق، لأن الشيء الوحيد الذي يهم حقيقة هو القمة (peak). إن ما بعد الحداثة هو السعي المحموم للقمم (hectic drive for peaks)، وأنت تنزع لطلب المزيد والمزيد منها، وبشكل أسرع وأسرع.
وبالعودة إلى ذكر التحدّي للتعلّم عبر العمل، يقول: < بسبب هذا التوجّه، إذا كان هدفك أن تؤمّن مكاناً للتأمل والمراجعة (reflection) في التعلّم في العقود الأولى للألفية الجديدة، ستكون مواجَهاً بتحدٍ قاسٍ. ستكون تحت الضغط من الناس والأوضاع التي لم تعد ميّالة حقيقة لمجرّد التوقّف، وأخذ الوقت والبقاء صامتة، والتوجّه إلى الداخل (الذات) (turn inwards) – فقط للحصول على ما قد يكون إلهامات مزعجة (troublesome insights) >.
وما ذكره من مثال وأوضحه في سرده عن السعي للقمم يشبه ما يحصل بشكل دائم على وسائل التواصل من اجتزاء المقطع الأكثر إثارة في خطاب أو كلمة أو نص، ونشره على أنه الشيء الوحيد (القمة) في الخطاب، مع إزالة كل التمهيد والسياق وما سواه من كلام. فكل ما سواه ممل أو أطول مما يمكن الإنصات له، في عصر السرعة الحالي.
ومن هذا السياق، يمكننا القول أننا نمارس سلوكيات ما بعد الحداثة ولو كنّا لا نعي ما هي موجة ما بعد الحداثة وما هي مميزاتها وهل تتوافق مع قيمنا ومبادئنا العقائدية والأخلاقية.
آخر تحديث: 13 كانون الثاني 2020.
نشر: 4 كانون الثاني 2020.
-
Geert R. Egger, Making Space for Reflection in Action Learning, ch. 16 in: R. L. Dilworth et al. (eds.), Action Learning and its Applications (Palgrave Macmillan, 2010), p. 231-232↩︎