الهاتف “الذكي” وتفكك الأسرة
ملخص: تحتاج الأسرة على مجموعة كبيرة من القيم منها: الصبر والتأني والتركيز وتحمّل النقص. بينما يشجّع الهاتف الذكي على العجلة والسرعة والتشتت وتوخّي الكمال. فعندما يصبح أفرد الأسرة قليلو الصبر وعجولين ومشتّتين ومتوخّين للكمال يصبح حال الأسرة أقرب إلى التفكّك وأبعد عن النمو الأسري السليم.
في معرض الحديث عن تفكك الأسرة في السنوات الأخيرة، يُذكر كثيراً دور انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ودور الاختلاط الذي يتمّ عبرها في المساهمة في هذا التفكّك. وممّا يُفهم ضمناً -وأحياناً يقال صراحة- أن الهاتف الذكي
بذاته ليس مسؤولاً عن التفكّك إذ هو أداة محايدة يمكن استخدامه في مجالات مفيدة ويمكن أن يكون ممراً لاستخدامات ضارّة بالترابط الأسري. ويمكن تفهّم هذا الموقف من الهاتف الذكي
لأن موقفاً سلبياً منه يعتبر معاداة للتقدّم والتطوّر والتكنولوجيا، وبالتالي موقفاً رجعياً
كما يسمّيه البعض.
ولكن هل الهاتف الذكي
أداة محادية، لا تؤثّر سلبياً علينا ما دمنا نستخدمها في مجالات مشروعة
؟! وهل ضرره على الأسرة يتوقّف عند استخدامه في مجالات محرّمة كالاختلاط المحرّم؟ سنركّز الحديث في هذه المقالة على التأثيرات البنوية للهادف الذكي على مجال الأسرة، إذْ أن تأثيراته بشكل عام تتعدّى مجال الأسرة بكثير، وقد تناول الكتاب عرض تأثيراتها على الجانب المعرفي والعملي والنفسي (ص 141-203).
للإجابة عن سؤال المقالة يمكن الانطلاق من المقارنة بين تأثيرات الهاتف الذكي
من جهة وبين متطلّبات تأسيس أسرة وتربية سليمة من جهة أخرى، فيكون السؤال هو التالي: هل يشجّع استخدام الهاتف الذكي على امتلاك متطلبات تأسيس الأسرة وتربية الأبناء أم يشجّع على نقيضها؟
متطلبات بناء الأسرة
الصبر وتقبّل النقص
من الواضح أن تربية الأبناء وبناء التماسك والتعاون بين الوالدين عملية تحتاج إلى قدر كبير من الصبر والتغاضي وتحمّل النقص الموجود في كل فرد من الأسرة. وعملية التربية بطيئة بطبيعتها ولا يمكن تسريعها مهما امتلكنا من تكنولوجيا وبالتالي على الوالدين تحمّل القيام بعملية بطيئة تؤتي ثمارها ببطء وعلى وتيرة متباعدة زمنياً. وهذا بطبيعته يحتاج إلى التركيز والثبات على الأهداف وتقليل المشتّتات والضوضاء الخارجية.
ثم يأتي الهاتف الذكي
كرمز عصر السرعة وتبادل الاتصال والمعلومات بسرعة الضوء وتحقيق كل عملية بأعشار من الثانية -وإلا يمكن شراء هاتف ذكي
أسرع منه أو تنزيل تطبيق أسرع منه!
وكذلك يشجّعنا الهاتف على القيام بكل ما نريد القيام به في عالمنا الافتراضي دفعة واحدة وفي وقت واحد؛ نتواصل مع صديق ونرسل ملفاً لآخر ونقرأ الأخبار ونتعرّف على أخبار الأصدقاء…). وكل ذلك ينبغي أن يتمّ بأفضل وأسرع طريقة؛ فإذا وجدنا ما هو أقل من الكمال سرعان ما سيأتي التحديث المقبل (update) ليحلّ المشكلات والتشويه البسيط في واجهة الاستخدام (interface).
التعاطف
وتربط العديد من الدراسات بين تنفيذ الأعمال بشكل متوازي (multi-tasking) وهو ما يقوم به الإنسان عادة على الهاتف الذكي
أو الكمبيوتر وبين ضعف القدرة على التعاطف مع الناس (empathy). وهذا الربط وإن كان في طور البحث العلمي في علم الدماغ (neuroscience) واكتشاف العلاقة السبيبة الدقيقة في الربط إلاّ أنه يدفعنا إلى مراقبة طريقة تنفيذها للمهام على الهاتف بشكل مشتت ومبعثر جداً.
التأمّل
ويرى آخرون أن تعاطي الإنسان مع السرعة تؤدي إلى فقد اتصاله بنفسه، وبالتالي إلى التعاطي بوعي وبصيرة وتأنٍ وتأمل مع سلوك الإنسان. فهل بات يمتلك الإنسان وقتاً ليجلس مع نفسه ويحاسبها ويعرف تحدّياتها ونواقصها وعراقيلها وما تلبّس له نفسه والشيطان من مكائد وتغرير وتلبيس للباطل بلباس الحق، ويريد الهاتف أن ينزع كل لحظة فراغ من يوم الإنسان ليقضيها على شاشة الهاتف وتصفّح مستجدّاته الكثيرة والتي لا تتوقّف، وإنْ كانت أقل أهمية بكثير من التحدّيات التي عليه مواجهتها في حياته.
البساطة والاستقرار
وكذلك تحتاج الأسرة للبساطة (simplicity) في جميع أمورها حفظاً للهدف الأساسي وللتعالي عن الغرق في التفاصيل والكثرة. بينما يعطيها الهاتف كثرة هائلة من أشياء بشكل شبه مجاني، وهذا يقلّل من قيمة الأشياء والارتباط العاطفي معها.
التركيز
ولعلّ الآلية الأهم لحصول كثير من السلبيات هو أن ما قد يسبّبه الهاتف بشكل أساسي هو التشتت نتيجة الكثرة المفرطة للخيارات والمعلومات التي نحصل عليها منها وسرعة الانتقال بينها مع ما يحمله ذلك من إغراء كبير يؤدي بالبعض للإدمان بحسب اصطلاح علم النفس للكلمة. فمعالجة المعلومات بأشكالها الصغيرة (منشور صغير، فيديو صغير، رسالة قصيرة…) يعطي إحساساً بالإنجاز الصغير، والذي من الواضح -في دراسات علم الإدارة- أنه يحمل تأثيراً وإغراءً كبيراً على حساب تحقيق الإنجازات الكبيرة والتي تتطلّب وقتاً طويلاً. ولكن تحقيق إنجاز صغير ليس سلبياً بذاته، بل على العكس، تهدف عملية التخطيط إلى جعل الهدف الكبير والطويل عبارة عن إنجازات صغيرة يومية ومتواصلة، ولكن ما يحصل عادة على الإنترنت هو إنجازات صغيرة مشتتة وغير مترابطة ولا يجمعها هدف واحد ولا رؤية واضحة لما يُراد تحقيقه.
إدمان وسائل التواصل وفتنة الشهرة
وحتّى الآن لم ندخل إلى عالم وسائل التواصل وما يحصل عليها من عوامل نفسية أساسية تدفع إلى الإدمان كحب الشهرة والشعور بالانتماء والأهمية. ولكن المقالة لن توسّع في هذا المضمار لأن هدفها التركيز على التأثيرات المباشرة على الأسرة، فالتأثيرات غير المباشرة كثيرة جداً، وقد يكون الأنسب تناولها ضمن ميادين أخرى حيث يكون تأثيرها مباشرة.
وأخيراً، لا شك بأن للهاتف الذكي والاتصال بالإنترنت منافع وفرص كثيرة. ولكن تحصيل فوائد كثيرة منهما لا يستدعي تواجداً دائماً عليهما؛ إذا كان الإنسان يجلب كل حاجاته الغذائية والمنزلية من المتجر، فهل يعيش فيه كل وقته؟!
آخر تحديث: 13 كانون الثاني 2020.
نشر: 4 كانون الثاني 2020.
اترك تعليقاً